سورة التحريم - تفسير تفسير ابن عجيبة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (التحريم)


        


يقول الحق جلّ جلاله: {يا أيها الذين آمنوا تُوبوا إِلى الله توبةً نَصوحاً} أي: بالغة في النصح، وُصفت بذلك مجازاً، وهي وصف للتائبين، وهو أن ينصحوا بالتوبة أنفسَهم، فيأتوا بها على طريقتها، وذلك أن يتوبوا عن القبائح، لقبْحها، نادمين عليها، مغتمِّين أشد الاغتمام لارتكابها، عازمين على أنهم لا يعودون إلى قبيح من القبائح، وقيل: نصوحاً: صادقة، وقيل: خالصة، يُقال: عسل ناصح: إذا خلص من شمعه، وقيل: مِن نصاحة الثوب، أي: ترقيعه، لأنها ترقع خروقك في دينك وترمّ خللك، وقيل: توبة تنصح الناس، أي: تدعوهم إلى مثلها؛ لظهور آثارها في صاحبها، باستعمال الجد والعزيمة في العمل على مقتضياتها، ومَن قرأ بضم النون فمصدر، أي: ذات نصوح، أو تنصح نصوحاً. وفي الحديث: «التوبة النصوح أن يتوب، ثم لا يعود إلى الذنب إلى أن يعود اللبن في الضرع» وعن حذيفة: بحسب الرجل من الشر أن يتوب من الذنب ثم يعود فيه وعن ابن عباس رضي الله عنه: هي الاستغفار باللسان، والندم بالجنان، والإقلاع بالأركان.
{عسى ربُّكم أن يُكَفِّرَ عنكم سيئاتِكم}، هذا على ما جرى به عادة الملوك من الإجابة بعسى ولعل، ووقوع ذلك منهم موقع القطع والبت. وقيل: عبّر ب {عسى} للإشعار أنّ المغفرة تفضل وإحسان، وأنّ التوبة غير موجبة لها، ولِيَبقى العبد بين خوف ورجاء ولو عمل ما عمل. {ويُدْخِلَكم جناتٍ تجري من تحتها الأنهارُ يومَ لا يُخزي اللهُ النبيَّ}. هو ظرف ل {يدخلكم} {والذين آمنوا معه}: عطف على النبي و{معه}: ظرف لآمنوا، وفيه تعريض بمَن أخزاهم الله من الكفرة. {نُورُهُمْ}: مبتدأ، و{يسعى} خبره، أي: يُضيء {بين أيديهم وبأَيمانهم} أي: على الصراط وفي مواطن القيامة، {يقولون} حال، أي: قائلين حين ينطفىء نور المنافقين: {ربنا أتمم لنا نورنا واغفرْ لنا إِنك على كل شيءٍ قديرٌ}، وقيل: يدعون بذلك تقرُّباً إلى الله مع تمام نورهم، وقيل: تتفاوت أنوارهم بحسب أعمالهم، فيسألون إتمامه تفضُّلاً، وقيل: السابقون إلى الجنة يمرون مثل البرق على الصراط وبعضهم كالريح وبعضهم كأجاود الخيل، وبعضهم حبواً، وزحفاً، وهم الذين يقولون: {ربنا أَتمم لنا نورنا}. وقد تقدّم: أنَّ مِن المقربين مَن تُقرّب لهم غُرف الجنات فيركبون فيها، ويسرحون إلى الجنة، ومنهم مَن يطير في الهواء إلى باب الجنة، فيقول الخزنة: مَن أنتم؟ فيقولون: وحن المتحابُّون في الله، فيقول: اذهبوا فنِعْمَ أجر العاملين، ويقول بعضهم لبعض: أين الصراط الذي وُعدنه، فيُقال لهم: جزتموه ولم تشعروا. والله تعالى أعلم.
الإشارة: توبةُ العامة من الذنوب، وتوبةُ الخاصة من العيوب، وتوبة خاصة الخاصة من الغيبة عن حضرة علاّم الغيوب، فهؤلاء أشد الناس افتقاراً إلى التوبة؛ إذ لا بُد للعبد من سهوٍ وسِنةٍ حتى يجول بقلبه في الأكوان، أو يميل عن الاعتدال، فيجب في حقهم الاستغفار منها، ولذلك كان عليه الصلاة والسلام يستغفر في المجلس الواحد سبعين أو مائة مرة.
وقد تكلم السّلفُ عن التوبة النصوح دون ما تقدّم، فقال ابن جبير: هي التوبة المقبولة، ولا تُقبل إلا بثلاثة شروط: خوف ألاَّ تُقبل منه، ورجاء أن تُقبل، وإدمان الطاعة. وقال ابن المسيب: توبة تنصحون بها أنفسكم، وقال القرظي: يجمعها أربعة: الاستغفار باللسان، والإقلاع بالأبدان، وترك العود بالجنان، ومهاجرة سيىء الخلان. وقال الثوري: علامتها أربعة: القِلة، والعِلة، والذلة، والغربة. وقال الفضيل: هو أن يكون الذنب نصب عينيه. وقال الواسطي: تكون لا لعرض دنيوي ولا أخروي. وقال أبو بكر الورّاق: هي أن تضيق عليك الدنيا بما رَحُبتْ، كحالة الذين خُلِّفوا. وقال رُويم: أن تكون لله وجهاً بلا قفا، كما كنت عند المعصية قفا بلا وجه، وقالت رابعة: توبة لا ارتياب فيها، وقال السري: لا تصلح التوبة النصوح إلاّ بنصيحة النفس والمؤمنين؛ لأنَّ مَن صحّت توبته أَحبَّ أن يكون الناس مثله، وقال الجنيد: هي أن تنسى الذنب فلا تذكره أبداً؛ لأنَّ مَن أحب اللهَ نسي ما دونه. اهـ.


يقول الحق جلّ جلاله: {يا أيها النبيُّ جاهِدِ الكفارَ} بالسيف {والمنافقين} بالحجة، أو: بالقول الغليظ والوعظ البليغ، أو: بإقامة الحدود، ولم يؤمر بقتالهم لِتَسَتُّر ظاهرهم بالإسلام، «أُمرت أن أحكم بالظواهر، والله يتولى السرائر»، {واغْلُظْ عليهم}؛ واستعمل الخشونة على الفريقين فيما تجاهدهما به من القتال والمخاصمة باللسان. {ومأوَاهم جهنمُ} يُباشرون فيها عذاباً غليظاً، {وبئس المصيرُ} جهنم، أو مصيرهم.
الإشارة: كُلُّ إنسان مأمور بجهاد أعدائه، من النفس، والهوى، والشيطان، وسائر القواطع، وبالغلاظ عليهم، حتى يُسلموا وينقادوا لحُكمه أو تقل شوكتهم، وهذا هو الجهاد الأكبر، لدوامه واتصاله، فمَن دام عليه حتى ظفر بعدوه، أو لقي ربه، كان مِن الصدّيقين، الذين درجتهم فوق درجة الشهداء، تلي درجة المرسَلين. وبالله التوفيق.


قلت: {مثلاُ}: مفعول ثان لضرب، أي: جعل، و {امرأةَ}: مفعول أول، أي: جعل امرأة نوح وامرأة لوط مثلاُ مضروباً للذين كفروا.
يقول الحق جلّ جلاله: {ضَرَبَ اللهُ مثلاً للذين كفروا}، ضَرْبُ المثل في أمثال هذه المواقع عبارة عن: إيراد حالة غريبة ليُعرف بها حالة أخرى، مشاكِلة لها في الغرابة، أي: ضرب الله مثلاً لحال الذين كفروا حيث يُعاقَبون على كفرهم وعداوتهم للمؤمنين، ولا ينفعهم ما كان بينهم وبين المؤمنين من النسب والمصاهرة بهاتين المرأتين، {امرأتَ نوحٍ وامرأتَ لوطٍ} قيل: اسم الأولى: واهلة، والثانية: راعلة، {كانتا تحت عبدين من عبادنا صَالِحَينِ} أي: كانتا في عصمة نبييْن عظيميْن، متمكنين من تحصيل خير الدنيا والأخرة، وحيازة سعادتهما، {فخانتاهما} بإفشاء سرهما، أو بالكفر والنفاق، {فلم يُغنيا عنهما من الله شيئاً} أي: فلم يُغن الرسولان عن المرأتين بحق ما بينهما من الزواج شيئاً من الإغناء من عذاب الله تعالى، {وقيل} لهما عند موتهما، أو يومَ القيامة: {ادخلا النارَ مع الداخلين} أي: مع سائر الداخلين من الكفرة، الذين لا وصلة بينهم وبين الأنبياء.
قال القشيري: لما سبقتً للمرأتين الفُرْقةُ يوم القِسْمة لم تنفعهما القرابةُ يومَ العقوبة. اهـ. قال ابن عطية: وقول مَن قال: إنَّ في المثلَين عبرة لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم بعيد. اهـ. قلت: لا بُعد فيه لذكره إثر تأديب المرأتين، وليس فيه غض لجانبهنّ المعظم، إنما فيه إيقاظ وإرشاد لما يزيدهم شرفاً وقُرباً من تعظيم الرسول صلى الله عليه وسلم وطاعته، وصيانة سِره، والمسارعة إلى ما فيه محبتُه ورضاه، وكل مَن نصحك فقد أحبّك، وكل مَن أهملك فقد مقتك.
{وضَرَبَ اللهُ مثلاً للذين آمنوا} في أنهم ينفعهم إيمانهم، ولو كانوا تحت قهرية الكفرة، حيث لم يميلوا عنه، {امرأة فرعونَ}، وهي أسية بنت مزاحم، وهي عمة موسى عليه السلام، آمنت به فعذّبها بالأوتاد الأربعة، وتَدَ يديها ورجليها وألقاها في الشمس على ظهرها، وألقى عليها صخرةَ عظيمة، فأبصرت بيتَها في الجنة، من دُرة، وانتزع اللهُ روحَها، فلقيتها الصخرة بلا روح، فلم تجد ألماً، وقال سَلْمَان: كانت امرأة فرعون تُعذَّب بالشمس، فإذا انصرفوا عنها أظلتها الملائكة، وفيه بيان أنها لم تمِل عن الإيمان مع شدة ما قاست من العذاب، وكذا فليكن صوالح النساء، وأمر عائشة وحفصة أن يكونا كآسية هذه. اهـ. من الثعلبي.
{إِذ قالتْ}: ظرف لمحذوف أي: ضرب مثلاً لحالها حين قالت: {رَبِّ ابْنِ لي عندكَ} أي: قريباً من رضوانك {بيتاً في الجنة} أو: في أعلى درجات المقربين، رُوي: أنها لَمّا قالت ذلك أُريت بيتها في الجنة. {ونجِّني من فرعونَ وعملِهِ} أي: من نفسه الخبيثة وعمله السيىء {ونجني من القوم الظالمين} أي: من القبط التابعين له في الظلم قال الحسن وابن كيسان: نجاها الله أكرمَ نجاةٍ، ورفعها إلى الجنة، فهي فيها تأكل وتشرب. اهـ.
{ومريمَ ابنة عمرانَ}: عطف على {امرأة فرعون} أي: وضرب اللهُ مثلاً للذين آمنوا حالَها وما أُتيت من كرامة الدنيا والآخرة والاصطفاء على نساء العالمين، مع كون قومها كفاراً، {التي أحْصَنَتْ فَرْجَها}؛ حفظته {فنفخنا في مِن روحنا} المخلوقة لنا، أو: من روح خَلقتُه بلا واسطة، {وصدَّقتْ بكلماتِ ربها}؛ بصُحفه المنزلة، أو: بما أوحى اللهُ إلى أنبيائه، {وكتابه} أي: جنس الكتاب الشامل للكل، وقرأ البصري وحفص بالجمع، أي: كُتبه الأربعة، وقرئ: {بكلمة الله وكتابه} أي: بعيسى وبالكتاب المنزَّل عليه الإنجيل، {وكانت من القانِتين} أي: من عدة المواظبين على الطاعة، والتذكير للتغليب، والإشعار بأنَّ طاعتها لم تقصر عن طاعة الرجال، حتى عُدت من جملتهم، أو كانت من نسل القانتين؛ لأنها من أعقاب هارون، أخي موسى عليهما السلام. وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «كَمُل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء إلا أربع: آسية بنت مزاحم، ومريم بنت عمران، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم، وفضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام».
قال النسفي: وفي طيِّ هذين التمثيلين تعريض بأمَّيِّ المؤمنين المذكورتين في أوّل السورة، وما فرط منهما من التظاهر على رسول الله صلى الله عليه وسلم بما كَرِهه، وتحذير لهما على أغلظ وجه، وإشارة إلى أنّ مِن حقهما أن تكونا في الأخلاق كهاتين المؤمنتين، وألاّ تتكلا على أنهما زوجا رسول الله صلى عليه وسلم. اهـ. وفي الثعلبي: وقال ابن عباس وجماعة: قطع اللهُ بهذه الآية طمَعَ مَن ركب المعصية، ورجا أن ينفعه صلاح غيره، وأخبر أنّ معصية غيره لا تضره إذا كان مطيعاً. اهـ.
الإشارة: قال القشيري: المرأتان الكافرتان إشارة إلى النفس الأمّارة والهوى المتَّبع، أي: كانتا تحت القلب والروح، فخانتاهما، حيث غلبتا القلبَ والروحَ، وجذبتاهما إليهما، فمال القلب إلى الحظوظ الجسمانية، ومالت الروحُ إلى الحروف الظلمانية، كحب الجاه والرئاسة والكرامة، فلم تُغنيا عنهما من الله شيئاً، حيث فاتهما اليقين والمعرفة العيانية، والمرأتان المؤمنتان إشارة إلى النفس المطمئنة والقلب المطمئن، حيث غلبا النفس الأمّارة والهوى، لم يضرهما صحبتهما، فقالت النفس المطمئنة: ربّ ابن لي عندك بيتاً في الجنة، في مقعد صدق عند مليك مقتدر، والقلب لمّا حَفِظً نفسه من دخول العلل، نفخ الحقُّ فيه من روحه، فأحياه به، وأشْهَده أنوار قدسه، فصدّق بكلمات الله الدالة على ذاته، ثم ترقَّى إلى شهود المتكلِم، وكان من القانتين، فجمع بين شهود عظمة الربوبية وآداب العبودية.
قال الورتجبي: {فنفخنا فيه...} الآية، أي: ظهر فيه نور الفعل، ثم ظهر في نور الفعل نور الصفة، فظهر في نور الصفة نور الذات، فكان بنور الذات والصفات حيًّا موصوفاً بصفاته، ناظراً إلى مشاهدة نور ذاته، لم تنقطع عنه أنوار الذات والصفات والفعل أبداً.
وهذه خاصية لمَن له أثر من روحه. قال بعضهم: نفخ من نوره في روح عبده، ليحيي بذلك الروح، ويحيى به، ويطلب النورَ ولا يغفل عن طلب المُنوِّر، فيعيش في الدنيا حميداً، ويُبعث في الآخرة شهيداً، فلمّا وجدت رَوحُ روحِ الله صدّقت بظهوره في العالم، وشبيه قلوب العالمين بأنه يكون مرآة الحق للخلق، وذلك قوله: {وصَدَّقت بكلمات ربها} ولمّا باشر أنوار القدس وروح الأنس كادت نفسها أن تميل إلى السكر في الأنانية، فسبق لها العناية، وأبقاها في درجة العبودية، حتى لا تسقط بالسُكر عن مقام الصحو، ألآ ترى كيف قال: {وكانت من القانتين} أي: من المستقيمين في معرفتها بربها، ومعرفتها بقيمة نفسها أنها مُسَخَّرة عاجزة لربها. اهـ. وبالله التوفيق. وصلّى الله على سيدنا محمد وآله.

1 | 2